فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ}.
لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم، لأن الشراب إنما يكون تبعًا للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدمًا في الآية قبلُ، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه.
الزمخشري: ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:
إذا سُقِيَتْ ضُيوفُ الناسِ مَحْضًا ** سَقَوْا أضيافَهمْ شَبِمًا زُلاَلاَ

وسُقِي بعضُ العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثَمِيلة.
{أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} أي السَّحاب، الواحدة مُزْنة؛ فقال الشاعر:
فنحنُ كماءِ الْمُزْنِ ما في نِصَابِنَا ** كَهَامٌ ولا فينا يُعَدُّ بَخِيلُ

وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المُزْن السَّحاب.
وعن ابن عباس أيضًا والثوري: المُزْن السّماء والسّحاب.
وفي الصّحاح: أبو زيد: المُزْنة السّحابة البيضاء والجمع مُزْن، والمُزْنة المَطْرَة؛ قال:
ألم تَرَ أن الله أَنْزَلَ مُزْنةً ** وعُفْرُ الظِّبَاءِ في الكِنَاسِ تَقَمَّعُ

{أَمْ نَحْنُ المنزلون} أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فَلِمَ لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟ ولَمِ تنكرون قدرتي على الإعادة؟.
{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي ملحًا شديد الملوحة؛ قاله ابن عباس.
الحسن: مرًّا قُعَاعًا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما.
{فَلَوْلاَ} أي فهلاّ تشكرون الذي صنع ذلك بكم.
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقَدْح من الشجر الرَّطْب {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ} يعني التي تكون منها الزِّناد وهي المَرْخُ والعَفَار؛ ومنه قولهم: في كلّ شجرٍ نار، واستمجد المَرْخُ والعَفَار؛ أي استكثر منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حَسْبهما.
ويقال: لأنهما يُسِرعان الْوَرْيَ.
يقال: أوْرَيت النار إذا قدحتها.
وورَى الزَّنَدُ يَرِى إذا انقدح منه النار.
وفيه لغة أخرى: ووَرِي الزَّندُ يَرِى بالكسر فيهما.
{أَمْ نَحْنُ المنشئون} أي المخترعون الخالقون؛ أي فإذا عرفتم قدرتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث.
قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى؛ قاله قتادة.
ومجاهد: تبصرة للناس من الظلام.
وصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم. فقالوا يا رسول الله: أن كانت لكافية؛ قال: فإنها فضَلَت عليها بتسعة وستين جُزْءًا كلّهنّ مثل حَرِّها». {وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} قال الضحاك: أي منفعة للمسافرين؛ سمّوا بذلك لنزولهم القَوَى وهو القفر.
الفراء: إنما يقال للمسافرين: مُقْوين إذا نزلوا القِيّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها.
وكذلك القَوَى والقَوَاء بالمدّ والقصر، ومنزلٌ قَواء لا أنيس به؛ يقال: أَقْوت الدارُ وقَوِيت أيضًا أي خلت من سكانها؛ قال النابغة:
يا دارَ مَيَّةَ بالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ** أَقْوَتْ وطال عَليها سَالفُ الأَمَدِ

وقال عنترة:
حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ** أَقْوَى وَأَقْفَر بَعد أُمِّ الْهَيْثَمِ

ويقال: أَقْوَى أي قَوِي وقَوِي أصحابه، وَأَقوى إذا سافر أي نزل القَوَاء والقِيّ.
وقال مجاهد: {لِّلْمُقْوِينَ} المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها.
وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم.
يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئًا، وبات فلان القَواء وبات القفرَ إذا بات جائعًا على غير طُعْم؛ قال الشاعر:
وإنِّي لأختارُ القَوَى طَاوِيَ الحَشَى ** محَافَظَةً من أَنْ يقال لَئِيمُ

وقال الربيع والسدي: {الْمُقوِينَ} المنزلين الذين لا زناد معهم؛ يعني نارًا يوقدون فيختبزون بها؟ ورواه العوفي عن ابن عباس.
وقال قُطْرب: المُقْوِي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني؛ يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله.
المهدوي: والآية تصلح للجميع؛ لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير.
وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأوّل.
القشيري: وخص المسافر بالانتفاع بها لأن انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم؛ لأن أهل البادية لابد لهم من النار يوقدونها ليلًا لتهرب منهم السّباع، وفي كثير من حوائجهم.
قوله تعالى: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} أي فنزّه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَفَرَءيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ}.
عذبًا فراتًا، وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به.
{ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} أي السحاب واحدته مزنة، قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

وقيل: هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب {أَمْ نَحْنُ المنزلون} له بقدرتنا.
{لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجًا} ملحًا ذعاقًا لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار، وقيل: الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار، فإما أن يراد ذلك، أو الملح بقرينة المقام وحذفت اللام من جواب لو هاهنا للقرينة اللفظية والحالية ومتى أجاز حذف لم أر في قول أوس:
حتى إذا الكلاب قال لها ** كاليوم مطلوبًا ولا طلبا

والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره الزمخشري، وقرر وجهًا آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره، وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقي بعد أن يطعم، وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل، وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولًا والحذف ثانيًا، ولم أره أتى بما يشرح الصدر، وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائل: إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحًا أسهل إمكانًا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وكثيرًا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحًا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد، فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى.
{فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة الماء فقط كما ذهب إليه البعض.
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أذا شرب الماء قال: الحمد لله الذي سقانا عذبًا فراتًا برحمته ولم يجعله ملحًا أجاجًا بذنوبنا».
{أَفَرَءيْتُمُ النار التي تُورُونَ} أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد.
{ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} التي منها الزناد وهي المرخ والعفار، وقيل: المراد بالشجرة نفس النار كأنه قيل: نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول متكلف بلا حاجة.
{أَمْ نَحْنُ المنشئون} لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبىء عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا تخلو عن النار حتى قيل في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى: {ثُمَّ أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14] لذلك.
{نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً} استئناف معين لمنافعها أي جعلناها تذكيرًا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به، أو جعلناها تذكرة وأنموذجًا من جهنم لما في (الصحيحين) وغيرهما عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم» وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في الأول إلى أنها من جنس نار جهنم أولًا وفي الثاني نظر إلى ذلك، وقيل: تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده، وقيل: تبصرة في الظلام يبصر بضوئها، وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة {ومتاعا} ومنفعة {لّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلون القواء وهي القفر من أقوى دخل القواء كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين، أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد.
وقيل: {لّلْمُقْوِينَ} أي المسافرين.
ورواه جمع عن ابن عباس وعبد بن حميد عن الحسن، وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم قد سافروا ثم أرملوا فأججوا نارًا فاستدفئوا وانتفعوا بها، وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرًا ما يسلكون القفراء والمفاوز، وقيل: {لّلْمُقْوِينَ} للفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في القفر الفقر، فقيل: أقوى فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل، وقال ابن زيد: للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا على ما قيل لأن غيرهم يتنعم بها لا يجعلها متاعًا، وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسدّ خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ.
وقال عكرمة ومجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز، قال العلامة الطيبي والطبرسي: وعلى هذا القول المقوى من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال، وللغنى مقو لقوّته على ما يريد يقال: أقوى الرجل إذا صار إلى حال القوة والمعنى متاعًا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها انتهى.
وفيه بحث لا يخفى، ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالاقواء الاحتياج والمستمتع بها محتاج إليها فتدبر، وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي وتقديم أمر الماء على أمر النار لأن الاحتياج إليه أشد وأكثر والانتفاع به أعم وأوفر، وقال بعضهم: قدم خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد، ثم ذكر بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغنى عنه الجسد الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزًا فلذا ذكرت بعد الماء وهو كما ترى، واستحسن بعضهم من القارئ أن يقول بعد كل جملة استفهامية من الجمل السابقة: بل أنت يا رب.
فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في (سننه) عن حجر المروى قال: بت عند عليّ كرم الله تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي بالليل يقرأ فمر بهذه الآية {أَفَرَءيْتُم مَّا تَخْلُقُونَهُ أَم إِن نَّحْنُ الخالقون} [الواقعة: 58.
59] فقال: بل أنت يا رب ثلاثًا، ثم قرأ {تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرعون لَوْ} فقال: بل أنت يا رب ثلاثًا، ثم قرأ {أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ} [الواقعة: 69] فقال: بل أنت يا رب ثلاثًا، ثم قرأ {أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ} [الواقعة: 72] فقال: بل أنت يا رب ثلاثًا، وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافًا بين العلماء.